سورة غافر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا لَننصرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} بالحجّة والظفر، والانتقام لهم من الكفرة، بالاستئصال، والقتل، والسبي، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح في ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة، امتحاناً؛ إذ الحكم للغالب، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا...} [الصافات: 171] الآية، وقوله: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]. والنصر في الدنيا إما بالسيف، في حق مَن أمر بالجهاد، أو: بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤثر به، وبذلك يندفع قول مَن زعم تخصيص الآية أو تعميمها، وإخراجَ زكريا ويحيى من الرسالة، وإنْ ثبت لهما النبوة لقتلهما، وأن الآية، إنما تضمنت نصر الرسل دون الأنبياء، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى، ففي كلام ابن جزي هنا نظر. قاله المحشي.
{ويومَ يقومُ الأشهادُ} أي: وننصرهم يوم القيامة، عبَّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ، وعلى الكفرة بالتكذيب. قال النسفي: الأشهاد جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، يريد: الأنبياء والحفظة، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب، والحفظة يشهدون على بني آدم. اهـ.
{يوم لا ينفعُ الظالمين معذرتُهم}: هو بدل من {يوم يقوم} أي: لا يقبل عذرهم، ومَن قرأ بالتأنيث فباعتبار لفظ المعذرة، {ولهم اللعنةُ} أي: البُعد من الرحمة، {ولهم سوءُ الدار} أي: سوء دار الآخرة، وهو عذابها.
الأشارة: كما نُصرت الرسل بعد الامتحان، نُصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان. قال الشاذلي رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذُل ّ حتى عزوا.. إلخ. وهم داخلون في قوله: {والذين آمنوا في الحياة الدنيا}، ونصرتهم تكون أولاً بالظفر بنفوسهم، ثم بالغيبة عن حس الكائنات، باتساع دائرة المعاني، ثم بالتصرف في الوجود بأسره بهمته. قال القشيري: ويقال: ينصرهم على أعدائهم بلطف خفيّ، وكيد غير مرئيّ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب، كما ينصرهم في الدنيا على تحقيق المعرفة، واليقين بأنَّ الكائنات من الله. ثم قال: غاية النصرة أن يَقتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره، فإذا رآه حقق له أنه لا عَدُو له في الحقيقة، وأنَّ الخلق أشباحٌ، وتجري عليهم أحكام القدرة، فالولِيُّ لا عدوَّ له ولا صديق، ليس له إلا الله. قال الله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} [البقرة: 257]. اهـ. والنصر في الحقيقة هو التأييد عند التعرفات، فإذا ابتلي الرسول أو الولي أيّده الله باليقين، ونصره بالمعرفة، فيلقي ما ينزل عليه بالرضا والتسليم، وتذكَّر ما لقي به الشاذلي حين دعا بالسلامة مما ابتلي به الرسل، متعللاً بأنهم أقوى، فقيل له: قل: وما أردتَ من شيء فأيِّدنا كما أيدتهم. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد آتينا موسى الهدى}؛ ما يهتدي به من المعجزات، أو الشرائع والصُحف. {وأورثنا بني إِسرائيل الكتابَ} أي: تركنا فيهم التوراة، يرثه بعضهم من بعض، أو: جنس الكتاب، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور؛ لأنَّ المنزَّل عليه منهم. قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي، الناطق بالحكمة والموعظة. اهـ. حال كون الكتاب {هُدًى وذكرى} أي: هادياً ومُذكِّراً، أو: إرشاداً وتذكرة {لأولي الألبابِ}؛ لأولي العقول الصافية، العالِمين بما فيه، العاملين به.
{فاصبرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقٌّ} أي: فاصبر على ما يُجرّعك قومك من الغُصَص {إِنَّ وعد الله} بنصرك وإعلاء دينك، على ما نطق به قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 173]، {حقٌّ} لا يحتمل الاختلاف بحال. قال الطيبي: الآية تشير إلى نصره على أعدائه، كموسى، وأنه يظهر دينه على الدين كله، ويورث كتابه؛ ليعتصموا به، فيكون لهم هُدًى وذكرى، وعزّاً وشرفاً. اهـ. أي: ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر؛ ليتم التشبيه.
{واستغفر لذنبك}، تشريعاً لأمتك؛ فإِنَّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النصر، أو: تداركاً لِمَا فرط منك من ترك الأَوْلَى في بعض الأحايين، فإِنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والحاصل: أن كل مقام له ذنب يليق به، وهو التقصير في القيام به على ما يليق به، فالنبي صلى الله عليه وسلم كُلف بدوام الشهود ولو في حال التعليم، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم، كان في حقه نقصاً يُوجب الاستغفار. ثم قال: {وسبّحْ بحمد ربك بالعشيّ والإِبكار} أي: دُم على التسبيح ملتبساً بحمده، أي: قل: سبحان الله وبحمده، أو: صَلّ في هذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيّاً، وقيل: هما صلاة العصر والفجر، خصصهما لشرفهما.
{إِنَّ الذين يُجادلون في آياتِ الله} ويجحدونها {بغير سُلطانٍ}؛ برهان {أتاهُم} من جهته تعالى، بل عناداً وحسداً. وتعليق المجادلة بذلك، مع استحالة إتيانه؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان، وهذا عام لكل مجادل، محق أو مبطل، وإن نزل في مشركي مكة. وقوله: {إِن في صُدورِهم إِلا كِبْرٌ}: خبر {إِنْ}، أي: ما في قلوبهم إلا تكبُّر عن الحق، وتعاظم عنه، وهو إرادةُ التقدم والرئاسة، وألا يكون أحدٌ فوقهم، فلذلك عادوك، ودفعوا آياتك، خيفة أن تتقدمهم، ويكونوا تحت قهرك؛ لأن النبوة تحتها كُل ملك ورئاسة، أو: إرادة أن تكون لهم النبوة دونك، حسداً وبغياً، كقولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11].
ثم وصف كِبْرَهم بقوله: {ما هم ببالغِيه} أي: ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه، وهو ما أرادوه من التقدُّم والرئاسة، وقيل: نزلت في اليهود، وهم المجادلون، كانوا يقولون: لست صاحبنا المذكور في التوراة، بل هو المسيح ابن داود، يعنون الدجال، يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله، فيرجع إلينا المُلك فسمى الله تمنيهم بذلك كِبْراً، ونفى أن يبلغوا متمناهم. {فاستعذ بالله}؛ فالتجىء إليه من كبد مَن يحسدك، ويبغي عليك، {إِنه هو السميعُ} لِمَا تقول ويقولون، {البصير} بما تعمل ويعملون، فهو ناصرك عليهم، وعاصمك من شرهم.
الإشارة: فاصبر أيها المتوجه إلى الله، إنَّ وعد الله بالفتح حق إن صبرت، وكابدت ولم تملّ، واستغفر لذنبك، وتطهرْ من عيبك، لتدخل حضرة ربك. قال الورتجبي: {واستغفر لذنبك} أي: لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية، وأيضاً: استغفر لرؤية وجودك في وجود الحق، فإنَّ كون الحادث في وجود القديم ذنب في إفراد القدم من الحدوث. انظر تمامه.
وقوله تعالى: {وسبّح...} إلخ، فيه الحث على التوجُّه إلى الله في هذين الوقتين، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام، فمَن فتح يومه بخير، وختمه بخير، حكم على بينهما. وقال في أهل الإنكار: {إِن الذين يُجادلون في آيات الله...} الآية، فاستعذ بالله منهم، وغِبْ عنهم بإقبالك على مولاك. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {لَخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلقِ الناسِ}، فمَن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته؛ وبعثه مع مهانته؛ أقدر، {ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون} ذلك؛ لأنهم لا يتفكرون؛ لغلبة الغفلة عليهم، وعمى بصيرتهم.
{وما يستوي الأعمى والبصيرُ} أي: الغافل والمستبصر، {ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيءُ}؛ ولا يستوي المحسن والمسيء، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت، وهي فيما بعد البعث، فيرتفع المستبصر المحسن في أعلى عليين، ويسقط الغافل المسيء في أسفل سافلين. وزيادة {لا} في المسيء؛ لتأكيد النفي؛ لطول الكلام بالصلة. {قليلاً ما يتذكرون} أي: تذكراً قليلاً يتذكرون. وقرىء بالغيبة، والخطاب، على الالتفات. {إِنَّ الساعة لآتيةٌ لا ريبَ فيها}؛ لا شك في مجيئها؛ لوضوح دلائلها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون}؛ لا يُصدقون بوقوعها؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسُّون.
الإشارة: التفكُّر في العوالم العلوية والسُفلية، يُوجب في القلب عظمة الحق جلّ جلاله، وباهر قدرته وحكمته، وإتيان البعث لا محالة؛ لنفوذ القدرة في الجميع. وكونُ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان، إنما هو باعتبار الجرم الحسي، وأما باعتبار المعنى؛ فالإنسان أعظم؛ لاشتماله على العوالم كلها، كما قال في المباحث:
اعْقِلْ فأَنْتَ نُسخةُ الوُجُود *** لله ما أعلاكَ مِن مَوجُود
أَليس فِيكَ العرْشُ والكرسِيُّ *** والعَالَمُ العلويُّ والسُّفليُّ

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9